حكومة اتويزَه

حكومة اتويزَه

الشيء بالشيء يذكر
تجمّعن من شـتى ثلاثا وأربعا :: وواحدة حتى بلغن الثمانيا

اشتهر هذا البيت عند أهل المنتبذ القصي، وزاد شهرة حين جاء على متن صوت كوكب الغرب، في روائع خالدة من تسجيلات سدوم وديمي ، أيام ترف الأزمنة الهادئة.

والببت من أبيات مشهورة للشاعر سحيم عبد بني الحسحاس.
وكان طلاب المحظرة ليالي السمر يطلبون إعراب (نصلاً) في قوله:
تداعينَ من أعلى البيوت يعدنني :: بقية ما أبقين نصلاً يمانيا

وسحيم اشتراه معبد وهو رجل من بني الحسحاس بطن من بني أسد، ثم باعه ذات ضيق يد و بعدما رحل به من اشتراه قال في طريقه:
وما كنت أحجو معبدًا سيبيعني :: بشيء ولو أمست أنامله صفرا
أخوكم ومولاكم وصاحب سركم :: ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا
أشوقاً ولمّا تمضِ لي غير ليلة :: فكيف إذا جدّ المطيُ بنا شهرا
فرق له واستعاده.

وكان سحيم أسودَ أعجمياً، وكان ينطق العربيّة بلكنة نوبية، ولكنه أوتي ملكة الشعر  وتمكن من ناصيته ، وفي سواده يقول:
إن كنت عبداً فنفسي حرة كرماً :: أو أسود اللون إني أبيض الخلق
ويقول:
كسيت قميصا ذا سواد وتحته :: قميص من الإحسان بيض بنائقه
وما ضر أثوابي سوادي وإنني :: لكالمسك لا يسلو عن المسك ذائقة

وذات أنس جالس سحيم نسوة من بني صبير، وكان من شأنهن اذا جلسن للتـغزل أن يتعابثن بشقّ الثياب وشدة المغالبة على إبداء المحاسن والمفاتن، فلا يستشعر أيّ خجل في أن يشاركهنّ لعبتهن:
كأنّ الصبيريات يوم لقيننا :: ظباء حنت أعناقها في المكانس
فكم قد شققنا من رداء مزنّر :: ومن برقع عن ناظر غير ناعس
إذا شق برد شق بالبرد مثله :: دواليك حتى كلنا غير لابس

اجترأ سحيم على التشبيب بنساء مواليه، فطفق يتغزل بهن ويصف زيارتهن له ذات وكعةٍ ألمت به:
تجمّعن من شـتّـى ثلاثا وأربعا :: وواحدة حتى بلغن الثـمانيا
سليمى وَسلمى والرباب وتربها :: وأروى وريا والمنى والقطاميا
تداعينَ من أعلى البيوت يعدنني :: بقية ما أبقين نصلاً يمانيا
يعدن مريضا هن هيّجن ما به :: ألا إنما إحدى العوائد دائيا

وقال أبياتا يشبب فيها بأخت مولاه، وكانت مريضة، وأولها:
ماذا يُريدُ السَقامُ مِن قَمَرٍ :: كُلُّ جَمالٍ لوَجهِهِ تَبَعُ
ما يَبتَغي جارَ في مَحاسِنِها :: أَما لَهُ في القِباحِ مُتَّسَعُ
غَيَّرَ مِن لَونِها وصَغَّرَها :: فَزيدَ فيهِ الجَمالُ والبِدَعُ
لَو كانَ يَبغى الفِداءَ قُلتُ لَهُ :: ها أَنا دونَ الحَبيبِ يا وَجَعُ

كما عشق ابنة مولاه عميرة بنت معبد، ويكنى عن حبها إلى أن خرج مولاه معبد في سفر، وخرج به معه، وكان معبد يتشوق إلى ابنته ويقول:
عميرة ودع إن تجهزت غاديا..
يردد النصف ولا يزيد عليه، فهيج ذلك من سحيم ما كان باطنا فقَال :
عميرة ودع إن تجهزت غاديا :: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
ثم بنى عليها وأتمها قصيدة وفحش فيها فقال:
كأنّ الثُّريَّا علِّقتْ فوقَ نحرها :: وجمرَ غضًى هبَّت لهُ الرِّيحُ ذاكيا
إذا اندفعتْ في ريطةٍ وخميصةٍ :: ولاثتْ بأعلى الرأسِ برداً يمانيا
تريكَ غداةَ البينِ كفَّاً ومعصماً :: ووجهاً كدينارِ الأعزَّةِ صافيا
وما بيضةٌ باتَ الظَّليمِ يحفُّها :: ويرفعُ عنها جؤجؤاً متجافيا
ويرفعُ عنها وهيَ بيضاءُ طلَّةٌ :: وقد واجهتْ قرناً من الشَّمسِ ضاحيا
بأحسنَ منها يومَ قالتْ أرائحٌ :: مع الرَّكبِ أم ثاوٍ لدينا لياليا
فإن تثوِ لا تملكْ وإنْ تضحِ غاديا :: تزوَّدْ وترحل عن عميرةَ راضيا
ومن يكُ لا يبقى على النأيِ ودُّهُ :: فقد زوَّدت ودَّاً عميرةُ باقيا
ألكني إليها عمركَ الله يا فتى :: بآيةِ ما جاءتْ إلينا تهاديا
تهاديَ سيلٍ في أباطحَ سهلةٍ :: إذا ما علا صمداً تفرَّعَ واديا
وبتنا وسادانا إلى علجانةٍ :: وحقفٍ تهاداهُ الرِّياحُ تهاديا
توسِّدني كفَّا وتثني بمعصمٍ :: عليَّ وتحنو رجلها من ورائيا
ففاءتْ ولم تقضِ الذي أقبلتْ لهُ :: ومن حاجةِ الإنسانِ ما ليس قاضيا
فما زالَ بردي طيِّبا من ثيابها :: إلى الحولِ حتَّى أنهجَ البردُ باليا

فلما أفرط في التغزل بنساء مواليه ووصف محاسنهن الظاهرة والخافية عزموا على قتله، فلما قدموا به ليقتلوه لم يمنعه موقفه وهو على شفا الهلاك من قول بيتين يظهر فيهما استهانته بالموت ويفخر بما صنعه بنساء مواليه، ويصف بكاء حبيبته أسماء:
شدو وثاقَ العبد لا يفلتكم :: إن الحياة من الممات قريبُ
فلقد تحدّر من جبين فتاتكم :: عرقٌ على متن الفِراش وطيبُ

فحفروا له أخدوداً وألقوه فيه ثم ألقوا فوقه الحطب فاحرقوه.

كامل الأسى

سيد محمد