الصحراء للصحراويين، وحين نقول للصحراويين فإننا نتحدث عن شعبٍ يعيش على ضفتين منذ نصف قرن ... لا عن أسرتين أو ثلاثٍ تعيش على الريع والفساد وتتمتّع بامتيازات على حساب شعب بأكمله.
ورغم كل محاولات الطمس والعبث والتزييف تبقى الصحراء عصيّة على الخضوع، لأن المسألة هنا ليست تاريخية او جغرافية ولا سياسية فحسب، بل هي قضية كرامة شعب ووطن.
من خلال انتمائي لهذا المجتمع، ومعرفتي الدقيقة بتركيبته وسيكولوجيته، يمكنني القول إن المجتمع الصحراوي هو السهل الممتنع؛ مجتمعٌ جمع بين التناقضات التي يعجز عن تفكيكها إلا ذوو الاختصاص. لقد علمته ظروف العيش القاسية في البيداء معنى الصمود والتحدي حتى آخر نفس، وهو أمر يجهله الكثيرون ....
علّمته عروبته "انتماء او نمط عيش" أن يعيش بالكرامة لا بالخبز، وأن تكون حريته أثمن من لقمة عيشه. فالصحراوي لم يعترف يومًا بالثورة من أجل الرغيف والخبز، بل كانت ثورته دائما من أجل الكرامة، يواجه بها كل محتلٍ ومدٍّ إمبريالي، كما تشهد بذلك الجغرافيا والتاريخ.
اذ ظل يقاوم ردحا من الزمن حتى دحر المستعمر وهزمه، ثم جاء مقترح الانضمام إلى المغرب، فقبل به كثير من الآباء والأجداد حبًا في دولة مسلمة يقودها ملكٌ علويٌّ شريف من آل البيت — رحمه الله رحمة واسعة ورحمهم اجمعين .
لكنّ المشكل الحقيقي لم يكن في من قبل القرار أو من رفضه، بل في الانقسام الذي أصاب هذا الشعب الواحد.
نصفه اليوم يعيش في المدن المتنازع عليها، يُنعت من قِبل المخزن والشعب المغربي نخبة وقاعدة بـ"الانفصالي" الذي يأكل الغلة ويسب الملة، هو لا يعرف ان الغلة التي تصب شمالا هي من خيرات الجنوب الساحر.... في حين يهمش اهله ويقصون ويزج بهم في السجون ويشردون بين الدول ....
بينما تُصرف مليارات طائلة على أجندة ملف الصحراء الى ان اصبحت مشروعا مربحا للاغلبية دون أن تُصرف كلمة حق في شعبها.
أما النصف الآخر، فقد وُسم في الرواية الرسمية بأنه "جزائري"، ووصموا بـ"أبناء البوليساريو"، في تغييبٍ تامٍ للحقيقة المأساوية أنهم أهل الدار وأصحاب الأرض وان الجزائرالعظيمة ليست سوى قبلة للاحرار استقبلت شعبا شقيقاومدت له يد العون بكل كبرياء جزائري وانفة والجزائر تؤكد كل يوم انها ليست عائقا في حل قضية الصحراء ولكن اجهزة اخرى تروج لغير ذلك .....
ان من ظل يروّج للأكاذيب والمغالطات طيلة خمسين سنة لا يريد أن يُحسم ملف الصحراء لصالح اي الطرفين ... لأنه يتغذى من الصراع ويعيش على استمراره. لقد زُرعت الكراهية، ومُنحت الحقوق لغير أهلها، وامتلأت الجيوب بينما خسر الجميع الحقيقة.
فمن يحرف تاريخ مجتمعٍ، ويطمس معالمه ومدنه، ويمحو ذاكرته، لا يسعى لحل، بل لإطالة عمر الملف الذي أغنى حسابات مصرفية وأنتج طبقةً انتقلت من حفظة النعال إلى ساكني الأبراج العاجية.
بالرغم من ان معظمهم نكرة في تاريخ الانسان والمجال ومن يكلف نفسه عناء البحث عن العديد من الاسماء والاعلام التي ترفرف اليوم عاليا سيجده نكرة بالامس القريب طير جيف جاء من الفراغ يتغذى على الجراح والدم ولم ينتصر لهم ولا بهم تاريخ المنطقة يوماً.
يجب ان يعلم الجميع ان الصحراء لأهلها، ولن يكون هناك حلٌّ حقيقيٌّ أو نهاية منصفة لهذا الملف دون العودة إلى أهل الصحراء الأصليين المسجّلين في اللوائح الإسبانية، لا إلى المجتمع البديل الذي صُنع بعناية في تسعينيات القرن الماضي، ونُفخت فيه الحياة لعقودٍ دون أن يُحدث أثراً في ميزان الحقيقة بل بعثر العديد من أوراق المجتمع المغربي حول هذا الملف...
ان حلّ الصحراء عند الصحراويين أنفسهم، أولئك الذين استقبلوا الملك الراحل الحسن الثاني "رحمه الله و رحمهم الله جميعا وأطال عمر من بقى " بكرم الصحراء وأهداهم بنادق، في إشارةٍ ذكية من ملكٍ فطنٍ إلى أنه يخاطب قومًا يعيشون بالبندقية رفيقةً في البيداء، لكنهم لا يعيشون إلا بالكرامة.
حين تُستعاد كرامة كل صحراوي من أفواه الجهلة والمرتزقة،
حين يُجرَّم التنمّر علينا ممن هبّ ودبّ،
حين تُعاد كتابة التاريخ بموضوعيةٍ وعدلٍ،
حين يُؤتى كلّ ذي حقٍّ حقه،
حين يعترف المخزن أن الحيل لا تخدم لا الدولة المغربية ولا الدولة الصحراوية، بل تُشعل فتيل حربٍ بينهما،
حينها فقط سيعرف الجميع أن حلّ الصحراء — مغربيةً كانت أو غربية — لا يكون إلا بقرار أهلها الأصليين.
حينها سيدركون كم كان الطريق قريبًا، وكم تاهوا نصف قرن لأنهم لم يحملوا البوصلة، ولم يعرفوا أسرار الصحراء....
يتبع...
لمينة الخطاط.