"خطاب الرئيس الجامع: نداء الدولة ومعضلة الترجمة"

 

شكل الخطاب الهام والعميق الذي ألقاه فخامة رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني حفظه الله ورعاه، خلال افتتاح النسخة الرابعة عشرة من مهرجان مدائن التراث بمدينة وادان، لحظة سياسية وفكرية متقدمة في مسار ترسيخ دولة المواطنة وتعزيز الوحدة الوطنية، وخطابا صريحا أعاد الاعتبار لمعنى الدولة الجامعة في زمن تتعاظم فيه التحديات.

لقد عبر فخامته، في هذا الخطاب، عن قناعة راسخة بأن بقاء الدولة واستقرارها مرهونان بقدرتها على تعزيز رباط المواطنة وتقوية اللحمة الاجتماعية، مؤكدا أن تجاوز الشرائحية والقبلية والفئوية لم يعد خيارا مؤجلا، بل ضرورة وطنية تفرضها متطلبات الدولة الحديثة، ومنطق العدالة، واستحقاقات المستقبل. كما حمّل النخب السياسية والفكرية والإعلامية والثقافية مسؤولية تاريخية، داعيا إياها إلى الارتقاء بدورها، وتحويل قناعتها النظرية بأهمية المواطنة إلى إسهام فعلي، يبتعد عن التجاذبات الضيقة التي تُضعف الأثر وتربك مسار الإصلاح.

ومن باب الإنصاف، فإن التهميش والإقصاء اللذين يعاني منهما بعض أبناء هذا الوطن لا يمكن نسبتهما إلى فخامة رئيس الجمهورية، الذي عبّر غير مرة عن رفضه الصريح لهذه الممارسات، وعمل على مواجهتها بإرادة سياسية واضحة، وإنجازات ملموسة لامست حياة المواطنين، وتحدثت عنها طموحاته بلسان الفعل قبل القول.

غير أن الإشكال الحقيقي، والمؤلم، يكمن في أن هذه الإرادة الرئاسية تصطدم، في مستويات التنفيذ، بممارسات بعض المحيطين بها، ممن لا يرون في الدولة فضاء جامعا، بل دوائر مغلقة، لا تُفتح إلا لأبناء النفوذ، أو لمن تحميهم العصبيات، أو من تفرضهم شبكات المصالح. هؤلاء، أيها الرئيس، هم من يقفون اليوم حجر عثرة أمام تقدم هذا الوطن، وهم من يفرغون الخطاب الوطني من مضمونه، بأفعال انتقائية تُقصي الكفاءة وتكافئ القرب.

فالمواطن، وهو يرى صدق الخطاب ووضوح الرؤيتكم سيدي الرئيس حفظكم الله، يصطدم، عند أبواب بعض الإدارات، بواقع مغاير؛ أبواب تُغلق في وجهه حين يطلب حقه في المشاركة في خيرات بلده، وتُفتح لغيره بمعايير لا علاقة لها بالاستحقاق. واقعٌ يخلّف في النفس حسرة على حال الفرد وحال الوطن، في عالم باتت فيه معايير العدالة والشفافية أكثر وضوحًا، وأقل قابلية للتبرير.

ولعل الأخطر من ذلك أن كثيرين ممن اختاروا بوعي ومسؤولية السير في السفينة الوطنية ، والوقوف إلى جانب مشروعكم فخامة الرئيس في ترسيخ المواطنة وتعزيز اللحمة الاجتماعية “وأنا منهم”، وجدوا أنفسهم على هامش المسار، لا لقصور في العطاء، بل لأنهم لا ينتمون إلى دوائر النفوذ. وكأن الرسالة التي تُبعث إليهم—وإن لم تُقَل صراحة—أن الإصلاح ليس مرحّبًا به، وأن المكان محجوز لغير أهله.

إن هذا الإقصاء، حين يتحول إلى ممارسة، لا يهدد الأفراد فحسب، بل يهدد الدولة ذاتها. فهو يراكم الإحباط، ويضعف الثقة، ويفتح، من حيث لا يُراد، مسارات خطرة نحو التطرف والانكفاء ورفض المشترك الوطني. فالتطرف، في كثير من تجلياته، ليس سوى ابن شرعي لانسداد الأفق، وشعورٍ متراكم بالظلم، وغياب عن العدالة في توزيع الفرص.

لسنا خصوما للدولة بل نعتبر أنفسنا جزء منها من الدائيمن الصادقين لها، ولا طلاب امتياز، بل مواطنون اخترنا جانب الوطن، وجانبكم فخامة الرئيس، وجانب المشروع الجامع. نحن مستعدون، وغيرنا كثير، للعمل إعلاميا وثقافيا وفكريًا من أجل الوحدة الوطنية التي دعا إليها خطاب وادان. غير أن هذا الاستعداد يصطدم، في الواقع، بأبواب موصدة، يفترض أن تكون مفتوحة لمن آمن بالدولة وسعى إلى خدمتها.

إن تصحيح هذا المسار لم يعد خيارًا ثانويًا، بل ضرورة وطنية عاجلة، حماية لمصداقية المشروع الرئاسي، وصونا للوحدة الوطنية، وسدا لكل المنافذ التي قد تُستغل لضرب الاستقرار. فالدولة التي تطلب من أبنائها الولاء، مطالَبة بأن تفتح لهم أبوابها على أساس الحق والكفاءة، لا على أساس النفوذ والانتماء الضيق.

تبصير_أخلاقي

كتبه : الخبير القضائي والناشط السياسي: ازيدبيه ولد احديد