إنّ الحديث عن الإصلاح في المجال الأخلاقي والسياسي يثير إشكالية عميقة تتعلق بالعلاقة بين القول والفعل، بين الخطاب العمومي والضمير الفردي، وبين المظهر الاجتماعي للالتزام والمضمون الداخلي له. فحين يتحول الإصلاح إلى شعارٍ يُعلَن لا إلى ممارسةٍ تُجسَّد، يغدو الخطاب الأخلاقي مسرحًا للتمثيل أكثر منه ميدانًا للتغيير. هنا تتبدّى الأزمة لا في فساد الفعل فحسب، بل في انحراف معنى الإصلاح ذاته عن جذره الفلسفي الأصيل.
الإصلاح، في دلالته العميقة، ليس وعدًا يُقدَّم للناس، بل هو تحوّل أنطولوجي في طبيعة الفاعل الإنساني. إنّه انتقال من الانفعال إلى الفعل، ومن الخطاب إلى الممارسة، ومن المراقبة الخارجية إلى المراقبة الداخلية. فالمصلح الحقيقي لا يحتاج إلى إعلان نواياه، لأن صدق الفعل يغني عن تزيين القول. وما يُعلَن من إصلاحٍ عبر المنصات الافتراضية كثيرًا ما يكون استجابةً لرغبةٍ في التبرير أو التجميل أو الظهور، لا لنداء الضمير أو لواجب الواعي.
على الصعيد الفلسفي، يمكن القول إنّ جوهر الإصلاح يرتبط بمفهوم الواجب الأخلاقي الكانطي، حيث الفعل الأخلاقي لا يُقاس بنتائجه أو بآراء الآخرين فيه، بل بمدى انبثاقه من الإرادة الخيّرة وحدها. فـ«الإصلاح المعلن» يفقد طهره متى ارتبط بنظرة الجمهور، لأنه يتحوّل إلى وسيلةٍ لكسب الاعتراف الاجتماعي، بينما الفعل الأخلاقي الصادق يتغذّى من استشعار المسؤولية الذاتية أمام العقل العملي والرقابة الإلهية معًا.
من هذا المنطلق، فإنّ الإصلاح المعلن هو صورةٌ من صور ما يسميه زيغمونت باومان بـ«الأخلاق السائلة»، حيث تذوب المبادئ في بركة المظاهر، ويتحوّل الضمير إلى أداةٍ للتسويق الرمزي. فالفعل الأخلاقي في زمن الرقمنة لم يعد فعلًا صامتًا، بل صار حدثًا استعراضيًا يُقاس بعدد الإعجابات والتعليقات. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: لقد صارت الأخلاق تُقاس بمدى انتشارها، لا بصدقها.
وحين يُستبدل الإخلاص بالاستعراض، يتهاوى جوهر الإصلاح، لأن الفعل الذي يُنتظر عليه الثناء يفقد قيمته الجوهرية. الإصلاح الحقيقي هو الذي لا ينتظر الشهادة عليه، بل يكفيه أن يُرى من قِبَل الله، لا من قِبَل الجمهور. فكما يقول كانط: «الفعل الذي يفقد قيمته إن لم يُشاهده أحد، لا أخلاق فيه». ومن ثمّ، فإنّ إعلان النية بالإصلاح قد يكون في ذاته إخلالًا بروح الإصلاح، لأنه ينقل مركز الفعل من الداخل إلى الخارج، من الضمير إلى المنصة.
فــــالمجتمعات التي تُكثِر من الحديث عن الإصلاح دون أن تمارسه، تُشبه مريضًا يكتفي بوصف الألم دون علاجٍ له. فالخطاب الأخلاقي إن لم يُترجم إلى ممارسةٍ مؤسسية وإرادةٍ اجتماعية، يبقى مجرّد ترفٍ لغوي يخفف الوخز دون أن يبرئ الجرح. الإصلاح الحقيقي يحتاج إلى نظامٍ من القيم يُفعَّل في المؤسسات، لا إلى شعاراتٍ تُرفع في الفضاء الافتراضي.
لقد آن الأوان لأن نعيد الاعتبار إلى فضيلة الصمت الأخلاقي، حيث يكون الفعل الصالح خفيًّا، نابعًا من يقينٍ بأنّ الله وحده المطلع على السرائر، وأنّ القيمة الأخلاقية لا تُقاس بمدى وضوحها للآخرين، بل بعمق حضورها في الذات. فالمصلح الحقيقي لا يتحدث عن نفسه، لأنه مشغولٌ بالفعل لا بالعرض، وبالتحقيق لا بالتبرير.
وإذا كان الفساد يبدأ من لحظة التبرير، فإن الإصلاح يبدأ من لحظة الصدق. الإصلاح فعلٌ منضبط بالعقل والضمير، لا يستند إلى حماسةٍ عابرة أو إلى رغبةٍ في التميز الرمزي. وما أكثر الذين يتحدثون عن الإصلاح من خارجهم وهم عاجزون عن إصلاح ذواتهم! فكما أن الدولة التي تُكثر من لجان الإصلاح دون إرادةٍ سياسية تفقد مصداقيتها، كذلك الفرد الذي يعلن إصلاحه دون التزامٍ فعلي يفقد أخلاقه قبل جمهوره.
إنّ أخلاق الإصلاح تتطلب شجاعةً روحيةً لا ضجيجًا إعلاميًا؛ فالإصلاح هو قدرة الفرد على أن يعيش وفق ما يراه صوابًا، حتى في غياب الشهود. هو انحيازٌ إلى الواجب لا إلى التصفيق، وإلى الصدق لا إلى التجميل. تلك هي الماهية الفلسفية التي ترفع الإصلاح من مستوى الشعارات إلى مستوى الفعل المؤسِّس للقيمة.
وعليه، فإنّ الإصلاح الذي يُمارس بصمتٍ وصدق، ولو لم يُعلن، أنفع للوطن من ألف إصلاحٍ يُقال ولا يُرى. فالإخلاص لا يحتاج إلى منبر، والضمير لا يطلب جمهورًا. إنّها لحظة عودة إلى الفعل النزيه، حيث يكون الإنسان مصلحًا لأنه يرى الله، لا لأنه يُرى من الناس.
__________
ذ. سيد محمد محمد اطفل / ماجستير فلسفة سياسية _ جامعة انواكشوط