وحدة الجمالة ومهزلة مشروع التنمية والزراعة في "اظهر"
—————————-————————
كتب العقيد المتقاعد احمد سالم لكبيد:
في سنة 1995 زار الرئيس معاوية ولد سيد احمد الطائع مدينة النعمه وأطلق فيها مشروع دومسات للاتصالات. وخلال هذه الزيارة اعطى التوجيهات لوزير الداخلية ووزير التنمية الريفية ووالي الحوض الشرقي بتنفيذ مشروع نموذجي بمنطقة "اظهر النعمة" يهدف الى تشجيع البدو الرحل في هذه المنطقة على ممارسة النشاط التجاري من خلال بيع الالبان للحصول على اثمان العلف وتشجيعهم على زراعة الخضروات والفواكه لتحسين غذائهم بالإضافة الى تربية الدواجن والوز والارانب لتوفير اللحوم البيضاء على أن يكون ذلك تحت اشراف وحدة الحرس الوطني بآشميم. نالت فكرة الرئيس اعجاب السلطات المعنية والحاضرين وصفقوا لها.. ولكن بمجرد عودة الرئيس الى نواكشوط بدات الفكرة تتبخر من الرؤوس وتم نسيانها بسرعة وسادفع انا شخصيا ثمن هذا التقصير في تنفيذ توجيهات الرئيس..بعد سنتين من هذا التاريخ..
ففي فبراير 1998 تم تحويلي قائدا لوحدة الجمالة في آشميم. وفي نهاية شهر ابريل من هذه السنة اعلنت رئاسة الجمهورية ان الرئيس معاوية سيزور الحوض الشرقي بعد اسبوعين فقط وانه سيزور المشروع النموذجي المذكور في بلدة آشميم..!
وقع الخبر كالصاعقة على وزارتي الداخلية والتنمية الريفية والحرس الوطني، لكنهم تماسكوا وصمموا على التعامل مع الامر بالحيلة والشطارة. لقد قرروا كتمان قضية عدم إنجاز المشروع عن الرئيس وتحركوا بسرعة لانجازه في اثني عشر يوما قبل زيارته للحوض..
وصلتني الاوامر من قيادتي بوضع الوحدة في حالة تاهب للتعامل مع الظرفية الطارئة. وفي الليل استقبلنا عشرات النجارين وقد اصطحبوا مختلف ادواتهم وشرعوا في العمل مواصلين الليل بالنهار لصنع مقرات خشبية للدواجن والوز والارانب. اخبرني احدهم ان كل عمال النجارة في مدينة 3 والسبخه والميناء في نواكشوط تم جلبهم..!
وفي الليلة الموالية وصلت شاحنة "رمورك" تحمل اعدادا كبيرة من الدجاج والوز والارانب. وبالتعاون بين افراد الوحدة والفريق الذي قدم تم ادخال الحيوانات بصعوبة في المقرات التي صنعها النجارون. وقد استغرقت العملية سبع ساعات متواصلة واصبح الجو صاخبا وعج الفضاء باصوات الدجاج والوز.
وفي الغد وصلت شاحنة قادمة من مزرعة "رنجاو" فرب كيهيدي تحمل شجيرات مقتلعة من البرتقال والمانغو والموز والليمون لغرسها. ووصلت شاحنة ثانية من آدرار تحمل نخل "تنقل" من نوعية جيدة ومعها خبيران في زراعة النخيل. بالتزامن مع ذلك بدأ افراد الوحدة ومجموعة من العمال المدنيين في وضع الاعمدة والسياج الذي استقدم من نواكشوط حول المزرعة وحول مساحة بجانبها بطول وعرض كيلومتر كمقر للابل و"مشروع اللبن"..
وكانت الكارثة الكبرى بالنسبة لنا تتمثل في تنفيذ امر صدر من القيادة بنقل صهريج تابع لمندوبية التنمية الريفية موجود في مدينة النعمة الى آشميم على متن شاحنة للمندوبية ثم دفعه بواسطة الايادي ليصل إلى قمة الكثيب الواقع شرق البئر الارتوازي القريب من موقع المشروع وتم وضع الانابيب بينه والبئر وبينه والمشروع..
بعد ذلك قام افراد الوحدة بغرس سد من أشجار "الفرنان" و"تيتارك" بمحاذاة السياج..كانت عملية شاقة جدا.. وفي نفس الوقت تم استقدام قطيع من الإبل يتخلله فحل ذو هدير قوي يتعهده بعض الرعاة ونصبت خيمتان صغيرتان على غرار خويمات المشاريع عند مشارف نواكشوط ووضع بداخلهما نفس الأثاث بل وضعت أدوات مثل مصفاة اللبن و"كار" كيل اللبن..!
وفي هذه الاثاء طلب منا بعض الخبراء الزراعيين زرع الذرة الخفيفة "متري" وبعض البذور سريعة الخروج من الأرض بعد سقيها بالماء..!
قبل ثلاثة أيام من وصول الرئيس اكتملت المسرحية إذن وكانت الأمور على ما يرام من ناحية الاخراج الفني: المزرعة وقد كساها اليخضور والمدجنة بدجاجها ووزها وارانبها وضجيجها ومنظومة الري بالصهريج المتربع على قمة الكثيب والمواسير المنتشرة والابل بهمهمة القطيع وجرجرة الفحل والرعاة في منتهى الجاهزية ومشروع بيع اللبن واضح المعالم..!
ذهبت فجر الغد إلى الولاية لحضور الاجتماع الأمني بمناسبة الزيارة وبالكاد عرفني الوالي والضباط والقادة الامنيين لان ملامحي تغيرت تماما بسبب التعب وتلقي اشعة الشمس الحارقة وغفلتي عن التغذية..ترأس الاجتماع الوالي والعقيد محمد ولد عبد العزيز قائد كتيبة الأمن الرئاسي ووضعت الترتيبات الامنية النهائية للزيارة الرئاسية..
وفي اليوم الموعود وصل الرئيس معاوية بعد العصر الى قرية آشميم وخصص له السكان إستقبالا حارا وفي المهرجان المنظم بالمناسبة القى خطابا مطولا وفي الليل تم تنظيم حفل بهيج انعشه الفنانون والشعراء..
وعند الصباح الباكر وصل الموكب الرئاسي الى مكان المشروع وتقدم الرئيس والمرحوم العقيد احمد ولد منيه وزير الداخلية وخلفهما الوفد المرافق والعديد من الشخصيات..ووقف الرئيس على مسافة قريبة من المشروع..وأخذ ينظر بارتياح إلى المدجنة والمزرعة ومشروع اللبن .. وتلقى من بعض المسؤولين الحاضرين ايضاحات واشادات بفكرته النيرة التي بفضلها أصبح سكان "أظهر" البدو ياكلون اللحوم البيضاء ويتناولون الخضروات ويبيعون اللبن ..
تمثلت الحلقة الأخيرة من سلسلة متاعب وحدة الجمالة في تنقلها إلى مطار النعمه لتقديم تحية الشرف ووداع الرئيس ..وقد وقع بعد مغادرته حادث مؤلم جدا هو تحطم طائرة عسكرية ومقتل 39 شخصا كانوا على متنها. ولا انسى ما حييت في تلك الليلة المشؤومة الجثث تحترق أمامي والسلطات المدنية والعسكرية ونحن عاحزون عن فعل شيء..كانت الاشلاء متبعثرة على ارضية الحادث والوسيلة الوحيدة للاطفاء كانت سيارة صهريج قديمة تتم تعبئتها بالماء بالدلاء من البئر..! ..
كانت الطائرة المنكوبة صينية الصنع انطلقت بقليل بعد مغادرة الرئيس دون اجراء الصيانة المطلوبة ..ولا اذكر انه كان يوجد جناح جدي للصيانة في مطار النعمه يومئذ وقد تكرم بانجازه الرئيس الراحل صدام حسين وتم اهماله على مر السنوات ..وعلى كل حال خسرت موريتانيا في تلك الليلة شخصيات بارزة وضباطا وافرادا متميزين رحمة الله عليهم..
بعد اسبوع من مغادرة الرئيس اجتاح وباء قاتل الدجاج والوز ونفقت إعداد كبيرة منها ومن الارانب البيضاء ايضا بسبب الحرارة والاكتظاظ..وعندما أبلغت الوالي بالأمر.. أرسل إلينا طبيبا بيطريا..اتانا مساء وقضى معنا الليل وفي الصباح وبعد زيارته للمدجنة رأيت على وجهه مزيجا من الاستغراب والاستنكار..وقد وعدني باتخاذ الإجراءات اللازمة وبعد ذهابه لم التقه بعد ذلك إلى غاية كتابة هذه السطور..
والمهم نفقت الطيور وماتت الأرانب..مع العلم ان السكان وأفراد الوحدة رفضوا أكلها او حيازتها بسبب طبيعتهم البدوية لاسيما ان شائعة راجت في اوساطهم مؤداها ان هذه الحيوانات التي لم يالفوها من قبل مصابة بمرض خطير..
وبالنسبة للرعاة فقد ذهبوا بابلهم بعد ساعات من مغادرة الرئيس للقرية وحملوا معهم جزاهم الله خيرا الخيمتين وادوات مشروع بيع اللبن.. وبعد أيام أرسلت مندوبية التنمية مهمة اقتلعت وذهبت بالصهريج والمواسير..وفي فترة وجيزة لم يبق من المشروع النموذجي للزراعة والتنمية في "أظهر النعمه" الا بعض الشجيرات المثمرة وثلاث نخلات بقت صامدة ومتحدية قساوة البيئة وشاهدة على هذه المهزلة والحالة المؤسفة من الفساد..
العقيد المتقاعد أحمد سالم ولد لكبيد