الأمير المجاهد سيدي أحمد ولد أحمد ولد عيده.. دروب الفروسية وفضاءات الأدب

الأمير المجاهد سيدي أحمد ولد أحمد ولد عيده..
دروب الفروسية وفضاءات الأدب

سيدي أحمد ولد الأمير
إعلامي وباحث موريتاني نشره في المجلة الثقافية  الموريتانية النسخه 4:

من الصعوبة بمكان تقديم الأمير سيدي أحمد ولد أحمد ولد عيده في مقال موجز، فهل أتحدث عن بسالته ونخوته، أم عن كرمه وأريحيته، أم عن جهاده ومقاومته، أم عن فروسيته وشجاعته، أم عن سياسته وحنكته أم عن أدبه وحصافته. 
إن الأمير سيدي أحمد ولد أحمد ولد عيده إنسان بما تحمله كلمة إنسان من معنى، فهو شخصية ذات أبعاد عديدة ونواح متعددة لا يمكن فصل بعضها عن بعض ولا التوسع في جانب وترك آخر، كما لا يمكن لمقال محدود الفقرات معدود الكلمات أن يحيط بكل تلك النواحي ويستوعب جميع تلك العناصر ويضعها في سياقها التاريخي والاجتماعي. 
وإذا كانت تلك الإحاطة وذلك الاستيعاب ضرورييْن احتراما للقارئ بإعطائه تعريفا شاملا بالأمير سيدي أحمد، كما أن فيهما وفاءً لشخصية وطنية أثرت في مسار تاريخ هذه المنطقة الصحراوية الشنقيطية، إلا أنهما مستحيلان هنا، فلا يتوقع القارئ أنني سوف أوفي هذه الشخصية حقها. مع أن دَين في رقابنا جميعا إفراد الأمير سيدي أحمد بدراسة شاملة وكتاب مستقل، وهو أمر وإن متعذرا عليَّ الآن بحكم أنه طلب مني مقال موجز عن هذا الأمير، فإن ما لا يدرك كله لا يترك جله؛ لذلك سأحاول في هذا المقال تلخيص بعض حياة الأمير سيدي أحمد، والاقتصار على بعض عناصر حياته المليئة بالوقائع، والتذكير بجهاده ومقاومته، والوقوف على جانب من أدبه وتراثه. وقد كان لي الشرف أني كنت أولَ من كتب عنه في الموسوعة العالمية ويكيبيديا نصا موجودا في الشبكة، وقد أضاف إليه بعض الباحثين عناصر مفيدة.

أمير من أمير من أمير:
هو سيدي أحمد بن أحمد بن سيدي أحمد بن أحمد الشهير بولد عيده بن سيدي أحمد بن عثمان بن الفظيل بن شنان بن بوبه بن عمني بن آكشار بن آكمتار بن مسعود بن غيلان بن يحيي بن عثمان بن مغفر بن أدي بن حسان(1). ولد في حدود سنة 1889م لأبيه الأمير أحمد بن سيدي أحمد ولأمه عيشة منت اعلِي ولد أحمد الملقب أيده بن محمد بن الفظيل بن اعلي  بن اللب (الجد الجامع لأولاد اللب) وهو ابن  أحمد  الملقب الشويخ بن امحمد بن امعرف بن دليم(2).
توفي أبوه أحمد بعد سقوط الدار عليه سنة 1899 وهو صبي، فاصطحبته أمه عيشة منت اعلِي ولد أحمد إلى حضرة الشيخ ماء العينين التي كانت مثابةَ المتعلمين ومشرب المريدين ومأوى الخائفين ومرتع طالبي الجدوى، وكانت لهذا الشيخ علاقة خاصة بقبائل أبناء يحيى عثمان. وخلال وفادة قام بها بعض مجموعة أولاد غيلان على الشيخ ماء العينين في سنة 1903، نصحهم الشيخ باصطحاب الفتى سيدي أحمد بن أحمد بن سيدي أحمد والسعي في تنصيبه أميرا على آدرار. وقد تبنى أولاد غيلان وصية الشيخ ماء العينين، خاصة وأن إمارة آدرار تمر بفترة تأزم حقيقية(3). وفعلا كان سيدي أحمد وفق المأمول فيه والمتوقع منه، فقد ملأ الفراغ وسد مسدا كان بحاجة إليه، وأعاد لكرسي الإمارة ألقه وأبهته، وبدأ بتحالفات قوية داخل الإمارة وخارجها، فَعَلَا شأنه وتوطدت إمارته وأحبه أهل آدرار وغيرهم، وكان بذلك عاشر أمراء أهل عثمان بن الفظيل تلك الأسرة الكريمة التي كان أمير آدرار يختار من بين رجالها.

في مواجهة الفرنسيين
توغلت فرنسا في التراب الموريتاني بعد أن دخلت مجال إمارة الترارزة في ديسمبر 1902 ولن نصل إلى فبراير 1903 حتى تكون تلك المنطقة تحت الاستعمار الفرنسي، وفي منتصف مايو 1903 جاء الدور على إمارة البراكنة التي وقعت تحت السيطرة الفرنسية ستة أشهر بعد السيطرة على الترارزة. ثم بدأ الطموح الفرنسي يتجه نحو تگانت بعد خضوع الترارزة والبراكنة السريع، وفي منتصف فبراير 1905 كانت الحملة الفرنسية عند درگل وهو أحد مداخل جبل تگانت، وقد توغل الفرنسيون في تگانت والرگيبة واستطاعوا في ليلة فاتح أبريل 1905 قتل أمير إدوعيش الشهيد بكار بن اسويد أحمد. عند ذلك اتجهت الأنظار إلى آدرار المعروف بوعورة مسالكه وبسالة أبنائه، وتفاعلت ساكنته مع الوضع الجديد وتجسد ذلك التفاعل في مقتل قائد الحملة الفرنسية في موريتانيا كزافييه كبلاني على يد الشريف ابن مولاي الزين ورفاقه من قبيلة إديشلي في ليلة الأربعاء 12 مايو 1905(4).
أصبح آدرار هدف الفرنسيين، لا لأخذ ثأر كبولاني فسحب، بل لأن عدم خضوع آدرار للسيطرة الفرنسية يعني فشل المشروع الفرنسي في المنطقة من أساسه. وهنا ظهر نجم الأمير سيدي أحمد وعلا شأنه وصار حامل لواء المقاومة وقطب رحاها. فتجمعت حوله القبائل من داخل آدرار ومن خارجه، فقاد الجيوش ونظم الحملات وقطع خطوط إمداد الجيش الفرنسي، وجابه أحد أكبر الضباط شأنا وأحسنهم تخطيطا وأعمقهم تجربة وهو العقيد گورو الذي نظم حملة عسكرية تعتبر في تاريخ الاستعمار الفرنسي أكبر حملة عدة وعتادا تم توجيهها إلى أفريقيا، وانتهت تلك الحملة بدخول الفرنسيين أطار في 9 يناير 1909(5). 
كان دخول الفرنسيين لأطار بالنسبة للأمير سيدي أحمد خسارة معركة لكنه لا يعني نهاية الحرب؛ حيث انتقل سيدي أحمد ومن معه من المقاومين إلى الحوض وظل متزعما حرب عصابات خاطفة وسريعة لكنها فعالة وموجعة للجيش الفرنسي فتارة يستهدف حاميات عسكرية، وتارة يركز على ضرب طرق تموين المراكز الفرنسية. ولم يضعف من إقدامه ترهيب الفرنسيين وتغيبهم، واستمالتهم العديد من الشيوخ ومنحهم الأمان لكن من قبل الدخول في حماهم، فقد ظل حماسه للمقاومة مستمرا وظل الفرنسيون في عجز تام حيال هجماته المتتالية.

الأمير سيدي أحمد: الأسر والإقامة الجبرية 
في 21 يناير 1912 جرح الأمير سيدي أحمد في معركة تيشيت ضد الفرنسيين بقيادة حاكم موريتانيا نفسه العقيد باتي (Patet)، وأخذ سيدي أحمد أسيرا إلى سان لويس (اندر). وحسب المراجع الفرنسية في تلك الفترة فقد قضى الأمير سيدي أحمد ثلاثة عشر شهرا في الإقامة الجبرية، وقد خصصت جريدة لوفيغارو (Le Figaro) تقريرا موسعا عن إقامة الأمير الجبرية كتبه بول آدام وركز فيه على أخلاق الأمير العالية، وعلى محاولة الحكام الفرنسيين في سان لويس استمالته، حتى ظنوا أنهم حققوا ذلك الهدف(6).
وفي تلك الفترة قال شعره (الگاف) المشهور:
مـارتْ عنْـدِ
عنِّي مگْبـوظْ
نوْكَـلْ وَحْـدِ
كيفْ أَمَگروظْ

وقد أعاد الفرنسيون سيدي أحمد إلى الإمارة، وتم ذلك بشكل فعلي في أكتوبر 1913 برغبة من أولاد غيلان بعدما وقعوا معه اتفاقية أعطوه بموجبها صلاحيات واسعة. ومنذ سنة 1918 بدأت علاقة الأمير بالفرنسيين تضطرب حيث اتهموه بإقامة علاقات مع المقاومة في الشمال فضلا عن محاولتهم استمالة أولاد غيلان وإديشلي وإذكاء الصراعات العصبية القديمة للحد من سلطات الأمير. وقد استدعِي الأمير إلى اندر وفرضت عليه بتلك المدينة إقامة جبرية استمرت سنتين. وعندما عاد إلى آدرار سنة 1920 وجد أن الوضع قد تغير ولاحظ أن صلاحياته السابقة لم يبق لها أثر. فقد برزت شخصيات على الساحة السياسية في آدرار كأحمد بن كركوب وعثمان بن عثمان العمنيين مما جعل الأمير يصبح في شبه عزلة.

الشهادة أقصى ما يطمح له المسلم
في مطلع سنة 1932 ابتعدت حلة الأمير نحو مقطير بهدف الالتحاق بالمقاومين. فأرسلت الإدارة الاستعمارية فرقة برئاسة الملازم أول "موسات" لإرجاع الأمير. فاحتال الأمير سيدي أحمد وزملاؤه في اغتيال الضابط الفرنسي حيث جلس بقربه محمد بن اخطور العمني ينظف سلاحه وصاح حمدي بن الأگرع بالأمير قائلا: "أيها الأمير أرسل أحدا يحضر لنا كبشا نذبحه" فأجابه الأمير "لقد آن الأوان" فكان في ذلك إشارة البدء بالهجوم على الفرنسيين، فسدد ابن اخطور سلاحه نحو الملازم وأصابه، وحمل عليه الأمير فأنهاه. وتابعت الحلة سيرها شمالا. جهزت السلطات الفرنسية كتيبة بقيادة لكوك فلحقت بالأمير عند الگلب الأخضر قرب وديان الخروب فاستشهد سيدي أحمد رحمه الله تعالى صبيحة 19 مارس 1932(7). 
وباستشهاد الأمير سيدي أحمد طويت صفحة من بذل النفس والاستماتة في حماية الحوزة الترابية للبلاد والسعي للوقوف في وجه الاستعمار.
وقد ترك رحمه الله عقبا هو السادة والسيدات: أحمد، ومحمد، وسيدي أحمد، وفاطمة والغالية ولاله.

الأمير الأديب:
ترك سيدي أحمد الكثير من الشعر الحساني الذي لو جمع لكان ديوان مستقلا يجمع أغراض الغزل والنسيب والفخر والمساجلات والتوحيد وغير ذلك.
من ذلك أن سيدي أحمد لما رأى -أذناء إقامته الجبرية- نخيل مدينة سان لويس السنغالية وتذكر مرابع آدرار الجميلة وأوديته الغناء ونخله الباسق أنشد ارتجالا: 
اتشايير انخل هذا الواد ::
ولم يتركه الأديب السنغالي محمدن ولد ابن المقداد الذي كان يجالس الأمير غالبا يكمل، فقال له: "سيدي أحمد، هاذِ دخله ماهُ واد"، فمصطلح الواد في آدرار تقابله "الدخلة" في منطقة شمامه، فيقول الأمير بسرعة وبديهة:
.. .. .. .. = ولَّ زاد الدخلَ لعادْ
ماهُ واد إزيدْ التفكاد=يسوَ گد إل واقع فيه
ء هاذ لرياح ال تتراد =زاد اعليه من إل اغليه
غيراصّ فم ابلد معهود =ماهُ ذ لبلد عالم بيه
إيلَ ما كره فيه اعود = ماهُ لاهِ بعد إغليه.

ومن أدبه الجميل قوله:
ذُ لمراكيبْ إلْ كلْ حد
يوگفْ وايگولْ إفْتارَ
يَسْو يرتكْبُ شورْ بعدْ
الخـطْ أُبـوزگرارَ

وقوله:
هاذَ لبْياظْ إفذِ إطْريـگ
والبـدعْ إلْمـاهُ زاحـلْ
عـادْ إفَگَّـدْنِي باوْليـگْ
وأهلْ الساحل من ساحلْ

وأدب الأمير سيدي أحمد باب واسع، ومجال يصعب حصره لذلك نكتفي بهذه الأمثلة التي على إيجازها تعطي صورة أدبية متميزة.

خاتمة:
سيدي أحمد ولد أحمد ولد عيده أمير مجاهد وبطل شهيد وشاعر مجيد وجواد حاتمي وفتى أريحيٌّ، تعددت أبعاد شخصيته، وجمع في نسبه بين إمارة أولاد يحيى بن عثمان ومشيخة أولاد اللب، وقد سمح له جهاده ومطاردة الفرنسيين أن يتعرف على أغلب المناطق الموريتانية، بل إن إقامته الجبرية في السنغال هي الأخرى وسعت في علاقاته، وجعلته على اطلاع بآفاق اجتماعية وسياسية جديدة. وعلى العموم يقف الباحث عاجزا عند الترجمة الشاملة المستوعبة للأمير سيدي أحمد ولد عيده؛ حيث تتكاثر عليه المعاني وتتعد الأبعاد فلا يجد إلا أن ينشد مع الشاعر القديم قوله:
تكاثرت لظباء على خداشِ

فما يدري خداش ما يصيد

____________________________________________
الهوامش:
(1)- انظر: بن حامدٌ (المختار)، حياة موريتانيا الجزء/ بنو حسان، الجزء السادس والعشرون، منشورات الزمن، الرباط، 2009، ص 95.
(2)- نفس الإحالة السابقة، ص 177.
(3)- انظر: بن حامدٌ (المختار)، حياة موريتانيا الجزء/ حوادث السنين أربعة قرون من تاريخ موريتانيا وجوارها، تحقيق سيدي أحمد بن أحمد سالم (بن الأمير) هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، دار الكتب الوطنية، 2011، ص 649.
(4)- نفس الإحالة السابقة، حوادث سنة 1321هـ.
(5)- سيدي أحمد ولد الأمير، سيدي أحمد ولد أحمد ولد عيده، موسوعة ويكيبيديا: https://bit.ly/3iKF9AL
(6)- Le Figaro 59me Année- 3me Série No 47, page 1.
(7)- Capitaine d'Otton Loyewski, Rezzous sur l'Adrar, publications du Gouvernement Général de l’AOF, 1942, p 46.