لكي تستعيد السياسة مصداقيتها
(حديث معاد بتصرف طفيف )
مساء التاسع من يوليو 1978، كان يهتف للتوحيد الوطني، وقبيل صلاة الفجر أدّى الرغيبة على البيان رقم واحد. وفي صباح الثاني عشر من دجنبر 1984، رقص صحبة “أمين اليقظة” داخل هياكل تهذيب الجماهير على نغمات: «راجل ماهو كيف الرجاله»، ثم سار بعد الزوال ضمن حشود المرحّبين بمن «من مثله من سيد؟». وعشية الرابع من أغسطس 2005، تصدّر نشرات الأخبار الرسمية بافتتاحه فصلًا من فصول محو الأمية، وفي اليوم الموالي كان منهمكًا في إعداد ملتمس موالاة لحكم “الأخ العارف به”، مدير الأمن العام. وفي الرابع من أغسطس 2008، كان من أشد المدافعين عن “سيادة الرئيس المنتخب”، وبعد ذلك بيومين كان يلعن الشيخ المخلوع، ويمجّد “نابليون موريتانيا” رئيس الفقراء والمساكين، وقد تراه اليوم يجاهر بمساندته لرئيس “الإجماع الوطني”، ويقول فيه – قصرًا – ما لم يقل مالك في الخمر.
إنه، باختصار، نمط قديم من السياسة، أو ما يصح تسميته بـ “أبلتيك”، تعوّدت عليه فئات من النخبة السياسية طريقًا سريعًا إلى حريم الحكم. ولم تنجُ المعارضة التقليدية من هذه الوصولية، حين حاولت – في تسرّعها نحو جنة السلطة الموعودة – أن تكسب شعبية السياسيين الانتهازيين بطبعهم، فأعطت الانطباع بأن ما يهمّها ليس بناء دولة، بل مجرد حكم شخصي… مهما كان الثمن، وهكذا صارت السياسة، في أعين الشعب، كثوبٍ غير طاهر.
والمخيف في الأمر أن هذا النمط لم يبقَ حبيس جيلٍ بعينه، بل بدأ ينتقل – في صمت – إلى الجيل الشبابي الصاعد الذي جرى اختياره داخل هياكل الحزب الحاكم، والذي يبدو أنه اقتنع بهذه الممارسة بوصفها الطريق السريع إلى التعيين والحصول على الامتيازات، فصار يمتهنها دون حرج، وكأنها القاعدة لا الاستثناء. والأخطر من ذلك أن بعض كبار السن من فئة المثقفين والأكاديميين الذين يتولّون مناصب وزارية يشجّعون، بتصرّفاتهم، هذا النمط المبتذل عبر المحسوبية، والتملّق، وما يمكن تسميته – دون مواربة – بالتسوّل السياسوي، فيقدّمون للشباب نموذجًا عمليًا معاكسًا تمامًا لكل ما يُقال في الخطب عن النزاهة والكفاءة وتكافؤ الفرص.
ماذا على السياسيين الموريتانيين أن يفعلوا لكي يستعيدوا مصداقيتهم؟ لا أعتقد أنه من الإنصاف مطالبة السياسي بالتقاعد؛ فالسياسة، لمن يمارسها بصدق، عمل متواصل لا ينتهي إلا باليقين، وليست الأعمار معيارًا للحكم على صلاحية الفكرة، فكم من شابٍّ مصاب بشيخوخة فكرية بائدة، وكم من شيخ يحمل فكر المستقبل في سلوكه الشاب. ثم إن الدعوة إلى “التقاعد السياسي” كثيرًا ما تعكس نزعة شعبوية تتغذّى من مغالطات تدفن الحقائق وتحجبها عن شعب محروم من المعرفة الدقيقة. يبقى أن من أراد المصداقية فعليه أن يسعى إليها برؤية واضحة، ونقد ذاتي شجاع، وبرنامج سياسي طموح، ويكمن الحل – من وجهة نظري – في مراجعة توافقية للنظام السياسي عبر انتخابات تشريعية و بلدية تُنظّم على أساس المعايير الدولية للشفافية والنزاهة، فحين لا يعرف الفاعلون السياسيون بدقّة من سيكون الفائز، وحين يقتنعون بحياد الإدارة العمومية، سينكشف وزنهم الحقيقي، وتتعرّى ولاءاتهم، فيوالي من يشاء عن بيّنة، ويعارض من يشاء عن بيّنة، وهنا فقط تبدأ السياسة في استعادة مصداقيتها.
عبد القادر ولد محمد.