القرار الأمريكي بخصوص الصحراء الغربية لن يمر كما أرادته واشنطن والرباط

القرار الأمريكي بخصوص الصحراء الغربية لن يمر كما أرادته واشنطن والرباط

بقلم: عبد الله ولد بونا / خبير استراتيجي
29اكتوبر 2025

هي محاولة متأخرة لفرض الأمر الواقع في عالم تغيّر

لم تعد الجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين تقبل بسياسات الإملاء، ولا بعقيدة “الشرطي الدولي” التي حكمت العالم طيلة العقود الماضية.

ورغم أن واشنطن تحاول بين حين وآخر أن تُعيد إنتاج نفوذها في مناطق فقدت السيطرة عليها، فإنّ مشروع القرار الأمريكي الأخير بخصوص الصحراء الغربية ليس سوى محاولة متأخرة لفرض أمر واقع تجاوزه الزمن والميدان والشرعية الدولية.

تتحرك الولايات المتحدة وكأنّ مجلس الأمن ما يزال في زمن أحادية القطب، غير مدركة أنّ النظام الدولي اليوم يقوم على توازنات معقّدة بين قوى كبرى تستمد شرعيتها من قدرتها على كبح الغطرسة الغربية وحماية حق الشعوب في تقرير مصيرها.
قوى دولية تعيد تشكيل ذاتها مقابل تنمر امريكي بلغ أقصى مداه.
فامريكا ترامب تتعامل مع الأمم المتحدة ومجلس الأمن ؛ كثوب قديم ألقت به في القمامة ، وتعيد تقمصه لإلحاق ضرر أكبر به.
فآمريكا تعودت الخروج على الشرعية الدولية بغطرسة لم تعد مقبولة عالميا.
ترامب انسحب من أغلب منظمات الأمم المتحدة ، بل أعلن الحرب ضدها، وقطع أغلب تمويلاته الأممية.
ويصر أن تقف آمريكا حيث يكون الوقوف فضيحة أخلاقية لآمريكا .

خطأ التوقيت وسوء قراءة المشهد العالمي

تزامن التحرك الأمريكي مع لحظة تراجع استراتيجي حاد في مكانة واشنطن.
فالحرب في أوكرانيا لم تعد ورقة ضغط على موسكو، بل أصبحت عبئاً اقتصادياً وسياسياً على الغرب.
أما الحرب التجارية والتقنية المفتوحة مع الصين، فقد فتحت جبهات صراع جديدة في آسيا وإفريقيا، ودفعت دولاً كثيرة إلى إعادة تموضعها بعيداً عن محور واشنطن.
وانحياز امريكا "لإسرائيل نتنياهو، وشراكتها في حرب الإبادة بغزة ، أسقطت آخر ورقة توت على شعارات السلام الآمريكي وحقوق الإنسان والعدالة والديمقراطية.
هذا مع موجة تصعيد اقتصادي ضد العالم  ، فقيره قبل غنيه ، بإلغاء كل ميزانيات الدعم للدول الفقيرة.
وكأن ترامب يرسل رسالة انغلاق آمريكي ، يرتكز على مرتكزين هما، إدارة الظهر للأمم المتحدة ، ولكل دول وشعوب العالم ، مالم تخضع لجبروت آمريكا ، تماما كقانون الغابة ، البقاء للأقوى .

في مثل هذا السياق المأزوم، يصبح الزجّ بملف حساس مثل الصحراء الغربية مقامرة خاسرة، لا لأنّ الجزائر  تعارضها، ومعها حلف تقدمي وازن ، بل لأنّ المناخ الدولي لم يعد يقبل بمنطق “المستعمِر الحديث”.

فيتو موسكو وبكين... وتوازن الردع الدبلوماسي

تستند الولايات المتحدة إلى قدرتها على المناورة داخل مجلس الأمن، لكنها تصطدم اليوم بواقع مختلف،  فروسيا والصين لن تسمحا بتمرير أي نص يُشرعن الاحتلال أو يلتف على حق تقرير المصير.

فهذه القضية تمثل بالنسبة لهما اختباراً لمبدأ توازن القوى الجديد، ولقدرتهما على كسر احتكار الغرب للشرعية الأممية.

بل إنّ موسكو تعتبر الملف امتداداً لمعركة الدفاع عن الشرعية الدولية التي تحاول واشنطن إعادة تعريفها وفق مصالحها، فيما ترى بكين فيه ساحة اختبار لمدى صمود الجنوب العالمي في وجه الابتزاز السياسي.

أوروبا المنقسمة والعجز عن حمل العبء الأمريكي

لم تعد أوروبا حليفاً متماسكاً كما كانت في الماضي.
فرنسا غارقة في فقدان نفوذها في الساحل وإفريقيا، ووإسبانيا رهينة توازناتها الداخلية ومصالحها الاقتصادية، وألمانيا تتجنب المغامرات الدبلوماسية التي قد تُضعف تجارتها أو أمنها الطاقوي.
وهكذا تجد واشنطن نفسها وحيدة في معركة غير أخلاقية، تحاول فيها فرض قرار لا يحظى حتى بدعم شركائها التقليديين.
هذا العجز الأوروبي هو أحد أسباب سقوط المشروع الأمريكي قبل أن يُعرض، لأنه لا يمكن فرض واقع جديد دون كتلة دعم وازنة في الأمم المتحدة.
ذلك ينضاف له طوفان غزة الذي جرف السردية الآمريكية و"الاسرائيلية " في أوروبا.
فغزة أصبحت كفتها بارزة في الرأي العام الأوروبي والآمريكي.
وتعري اليمين الشعبوي في الغرب .
أنصار غزة في كل دولة أوروبية وفي كل ولاية آمريكية ، أصبح صوتهم مسموعا تماما ومؤثرا

الجزائر... حجر الزاوية في معادلة التوازن

منذ استقلالها، لم تنظر الجزائر إلى قضية الصحراء الغربية كملف حدودي، بل كقضية مبدئية تتعلق بحق الشعوب في تقرير مصيرها.
واليوم، بعد تحوّلها إلى قوة إقليمية فاعلة تمتلك شبكة تحالفات مع روسيا والصين والاتحاد الإفريقي، فقد باتت الجزائر قوة ردع دبلوماسية قادرة على إحباط أي مناورة أمريكية.
بل أكثر من ذلك، فهي تطرح رؤية متكاملة لحل سياسي عادل، يستند إلى الشرعية الدولية لا إلى منطق الابتزاز.
لقد أصبحت الجزائر ـ ببساطة ـ صمام الأمان في شمال إفريقيا أمام مشاريع الفوضى والإلحاق التي تحاول واشنطن تمريرها تحت عناوين زائفة..
وامريكا لو دققت في حسابتها جيدا ، لأدركت أن اكتساب ثقة دولة كالجزائر أقل تكلفة وأكبر جدوى من محاولة تعويم المغرب ، الذي يواجه معادلة صفرية ، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وعزلة إقليمية ودولية ، تماما كنتنياهو المنبوذ.

الكلفة الأخلاقية لحرب الإبادة في غزة

لم تكن جراح غزة بعيدة عن سياق التحرك الأمريكي.
فالعالم تابع ـ على مدى عامين  ـ حرب إبادة مروّعة شنّتها "إسرائيل" بدعم سياسي وعسكري أمريكي مباشر.
تلك الحرب لم تدمّر فقط المدن الفلسطينية، بل دمّرت صورة الولايات المتحدة في الضمير الإنساني، وكشفت عن نفاقٍ فاضح في خطابها حول “حقوق الإنسان”.
لقد دفعت واشنطن ثمناً باهظاً لمساندتها حكومة إسرائيلية متطرفة يقودها "نتنياهو"، الذي أصبح منبوذاً حتى داخل الغرب ذاته.
لقد تآكلت مصداقية أمريكا في الأمم المتحدة، وتعرض دبلوماسيّوها لموجة رفض غير مسبوقة في عواصم الجنوب العالمي، حيث يُنظر إليها اليوم كقوة استعمارية تحتمي بالفيتو لتبرير الجرائم.
وفقدت الدبلوماسية الآمريكية مصداقيتها بسبب الدفاع عن غدر ونقض نتنياهو لكل اتفاق ترعاه .

ومن هنا، فإنّ أي تحرك أمريكي في الصحراء الغربية سيُقرأ تلقائياً على أنه استمرار لمنطق الإبادة السياسية ذاته الذي تمارسه في غزة،  سحق الحقوق باسم “الواقعية”.

استغلال “القيتو السياسي” لصالح "إسرائيل"

أصبحت السياسة الأمريكية أسيرة لما يُعرف بـ“القيتو السياسي” في واشنطن — وهو التحالف الضاغط الذي يمثله اللوبي الصهيوني في الكونغرس والإعلام ومراكز القرار.
هذا القيتو، الذي يفرض أولويات إسرائيل على حساب المصالح الأمريكية، هو ذاته الذي يدفع باتجاه تثبيت مغربية الصحراء كصفقة جديدة ضمن منظومة التطبيع والهيمنة.

لكن الواقع أن هذا الاستغلال المفرط للمؤسسات الأمريكية لصالح حكومة متطرفة في تل أبيب قد أضعف هيبة الولايات المتحدة وشرّخ صورتها كدولة قانون ومؤسسات.

بل إنّ عدداً متزايداً من الأصوات داخل أمريكا نفسها بات يحذر من أن السياسة الخارجية تُدار بعقلية اللوبي، لا بعقل الدولة.

تناقض المرجعية الأمريكية وفقدان البوصلة الأخلاقية

تدّعي واشنطن أنها تدعم “الحل الواقعي” في الصحراء الغربية، بينما هي عملياً تنقلب على مبدأ تقرير المصير الذي يشكل جوهر الشرعية الأممية.
فكيف يمكن لدولة تُنادي باستقلال أوكرانيا، أن ترفض استفتاء شعبٍ خضع للاستعمار الإسباني ثم للاحتلال المغربي؟
إنها ازدواجية فاضحة تنسف من داخلها أي مصداقية للقيم التي تتغنّى بها الولايات المتحدة، وتجعل من خطابها السياسي مجرد أداة لتبرير المصالح.

الحقيقة التي تحاول واشنطن تجاهلها

القضية الصحراوية ليست نزاعاً جغرافياً، بل ملف تصفية استعمار مؤجل، تؤكد عليه كل قرارات الأمم المتحدة منذ 1965.
وقد أدركت المنظمة الدولية، عبر كل مبعوثيها، أنّ تجاوز مبدأ تقرير المصير يعني الانتحار القانوني والسياسي لأي مبادرة.

لهذا، فإنّ مشروع القرار الأمريكي ـ مهما زخرفته الدبلوماسية ـ محكوم عليه بالفشل البنيوي، لأنه يتصادم مع القانون الدولي، ومع ضمير الشعوب، ومع توازن القوى الجديد في العالم.

عالم ما بعد الهيمنة

العالم لم يعد يقاس بموازين القوة العسكرية فقط، بل بموازين الشرعية والمصداقية.
لقد فقدت أمريكا جزءاً كبيراً من قوتها الرمزية، بينما صعدت قوى بديلة تحمل رؤية أكثر توازناً وعدلاً للنظام الدولي.
ولذلك، فإنّ أي محاولة أمريكية لفرض قرار بشأن الصحراء الغربية ستتحول إلى معركة رمزية خاسرة تُذكّر العالم بأنّ زمن الإملاءات انتهى.

لن يمر القرار الأمريكي، لا لأنّ موسكو أو بكين ستعطلانه فحسب، بل لأنّ العالم كله بات يدرك أن الشرعية لا تُشترى، والحرية لا تُقايض.
لقد تغيّر ميزان التاريخ، وأصبح الصوت الأعلى هو صوت العدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
ومن يصرّ على قراءة القرن الحادي والعشرين بعقلية القرن الماضي، سيجد نفسه خارج منطق الزمن، وخارج دائرة الشرعية الدولية