أمِّي.
........ا
حتما أنَّ من بينكم من قُدِّرَ عليه مثلي حالة كونه "تربية امرأة"، أرملة أو مُطلَّقة.. لكَ لكِ أكتبُ هذا، فأنتَ أنتِ الأقدر على استيعابِ ما يعنيه.
لماذا؟
لأنك جرَّبتَ مثلي التَّيتم من الأب بفعل الموت أو التَّخلي أو الغياب، أنا جرَّبته بالموت، وهو ألم حادٌّ وصعبٌ، له أثر وجداني خاص، تُلاحقك مرارته مهما تقدَّمَ بك العُمر وتراكمت السنين على ظهرك، فستعيدك الذكرى دومًا إلى حالة خواء ممتدة في الزمن، .. حالة تُماثل ما لوْ كنتَ واقفا في فراغٍ كبيرٍ، ثم فجأةً تُصاب بدوار وغثيان وتُحاول الاستناد إلى شيء حتى لا تفقد توازنك وتتعثر، ثم تكتشف أنَّ المِسند غير موجود وكذلك السَّند،.. فتسقط بكُلِّكَ أرضًا، وسيتكرر معك ألم الارتطام أكثر من مرة، ومُقَاسَاة عُسر الوقوف بجهدك الف مرة.. ذلك المسند المفقود في حالتك هو الأب!،.. وذلك الإحساس بالعجز سيبقى أكبر خسائرك المُسجَّلة ما حييت..
ستُدرك بعد ذلك أنَّ أيٍّ من رسائل هَواك وشَكواكَ لن تَصل إليه أبدًا، ستفتقده في أبسط الأشياء وفي أسْماها.... سيُوقظك الخذلان باكرًا وستُمْسي إلى احساسٍ هشٍّ لا رُكن فيه يأويك، حين تتأكد أنْ لا أب يستقبلك ولا حديث معه ينتظرك.
ستتمزَّق في غيابه بارتِعاب الارتياب، وأنت حائرٌ، تسترشد عشوائيا كل العابرين في حياتك عن وجاهة قراراتك وعن صواب اختياراتك، ستتلمَّسُ خَيالَ القُدوة في كلُّ الذين حولك حتى ولو خابوا في الْهامِ القيَّم.
سَيسْحقَك غيابه عن أهمِّ مَفاصِل أزْمانك، عن الفرح بنجاحاتك، عن تقويم اخفاقاتك، عن مُواكبة دراستك عن حضور زواجك، عن الابتهاج بأبنائك،.. جُملة، عن كل ذلك!..
من الطريف أن حربَ طواحينٍ فارغةٍ ومضحكة ستدور حواليك بمُفارقات عَزَّ اجتماعها، سيكون لك مثلاً أكثر من وكيلٍ تربوي في المدرسة، وأكثر من كفيلٍ شرعي واجتماعي، سيتعدَّد الأوصياء على مُمتلكاتك وفي حياتك وحول تحرّكاتك، وستتعدّد الآراء في تربيتك وطرق حضانتك، سيقرِّرون نيابة عنك ما يليق بك وما لا يليق، وسيُلْقونَ أضْغاثهم أيُّهم يَكفلك،.. وستضحك سرًّا من الألم، فأنتَ مفعول بك غالبًا، مقيَّد العفوية في مسرحية قسرية، تتفرج بازدراءٍ على شُخوصها وتُطيل التَّأمل.
ثم ذات انسدالٍ لستار التهريج، ستتنبَّه أنّ الجميع انسحبَ فجأةً من الباب الخلفي لحياتك، ليتركوك في مواجهة معها وحدك! .. وحينها ستتعلم دروسًا إضافية لم تكُن في الحسبان، وأهمها أن بريق النَّوايا وصخب المتطوعين والطامعين كان دومًا افتعالاً غير صادقٍ، وأنَّ كل الصّور حولك كانت مزوَّقة بالأوهام والخِداع الفَخم، وأنَّها لم تُعوِّضك يومًا فراغ الأب،.. بل استغلَّته.
وماذا بعد؟.. لا شيء!..، فالعبرة انحصرت في ماذا قبل،.. وأمَّا بعد، فسَيهزُّ الزَّمن أكتافه مُواصلاً رحلته، فلستَ أول يتيم ولن تكون آخره!
في هذا الظرف بالذات، كنا محظوظين، إخوتي وأنا، حين منحنا الله أمًّا جاءت على مقاس حاجتنا لحظتها، كانت بالكاد تخطو خارج عقدها الثالث، كانت امرأة جميلة بمقاييس زمانها، ألِفت ناعم العيش ومُترَفه، كانت مجرَّد ظل لزوجها الثري، وبين عشية وضحاها غدت ظلاًّ لنفسها ككل أرملة غريبة الأصل، في مُستهل صدمتها، وتخشى أنْ تسير الحياة ضدَّها..
رمت خلفها زينة الحياة وشهوتها وحُرّيتها، وانطلقت معنا صوبَ المجهول الكبير، فلم نكن أولادها، كنا أهمَّ حُلم احتضنته.
عاشت لنا، وعاشت معنا أعْمارًا مُتتابعة التَّلاحُقِ في عُمرها، اجتازت بنا بأمان بين حياتين منْ على جِسرٍ من الشوك كانت فوقه جيشنا الأوحد، كانت حاضرة جدًّا، وقويَّةً بما يكفي لمُهمة مرَّرتها إليها الأقدار ذات مساءٍ كئيب،.. وكمْ كانت مُنهمكة بِنَا وبغيرنا بِمَا يكفيها للانشغال عن المُقارنات والمُشاكسات،..
حياتها الجديدة لم تحصل فيها على ما تُريد من سكينة كَسالفِ أيَّامها، لكن حصلت فيها على ما احتاجته من عزيمة، ستمكّنها من تحقيق ما أرادته منَّا ولنَا.
حَجزت لنا حيزا تربويًّا آمنًا، لا منَّةَ فيه لأحدٍ علينا، لا دَيْن، لا جميل في أعناقنا لغيرها بعد الله جَلَّ في عُلاه،.. ومَنَحتْنا أنَفَةً فوق المعدل الطبيعي بدرجاتٍ، وأصَرَّت أنْ نُشيِّد بُنياننا الذَّاتي بكدٍّ وعِصاميَّة غير مَسجونين في طيفِ والدنا أو مَحسوبين على طرفٍ كانَ منْ يكون، وحَثَّت على أنْ لا نَملك أكثر من وجهٍ، وأنْ لا نمدَّ يدًا، أن نتغافل ونسامح وننسى، وجنَّبتنا صِراع الولاء لهويتها أو هويَّتنا.. وبذلك حقَّقت لنا نفعًا كبيرًا مُمتدا في أعمارنا،.. وما من شُعور يمنح نشوة النَّصر كصمود الوحيد الغريب في سبيل تحقيق ما يُريد.
لها في قلبي مشاعر امتنانٍ من نَوعٍ مُنفردٍ،.. مَشاعر تَخصُّها وحدها استحقاقًا دون العالمين، فهي لِي لا تُشبه غيرها.. هي أمٌّ وأبٌ وجِهادٌ واسطورة من عدَّة اختصاصات، وشهادة فخرٍ مُعلَّقة في ذاكرتي.
وكذلك فعلت ببذلٍ فخم مع كثيرين، واتخذت من ذلك لأُخْرَاها واحتَسَبَت وادّخَرت.
أطال الله عُمرها.
تنتهي بعض روايات الحياة ولا ينتهي مَغزاها، ومن مغزاها أن غيَّاب السَّند والمسند يُقوِّي العضلات المسؤولة عن الوقوف باستقامة وثبات!
طُوبَى لكل امرأة ربَّت ورَعَت وتحمَّلت وحيدة في غيَّاب الأبِ، أرملة كانت أو مطلقة أو مهجورة.
تحياتي.
الدهماء ريم