ومِمَّا جاءَ في بابِ اختفاءِ الدَّهماء. ............

ومِمَّا جاءَ في بابِ اختفاءِ الدَّهماء. 
............
أحيانًا تَشْتكي النفس بعض الضَّجر من صَخَب مَسارح التهريج، فتَشْتهي بعض التَّهوية، بعض الهُروب، لتُباعد أنفاسها، أو لتتنفس بعُمقٍ أعمق وتَتَخفَّف، وأحيانا يُرهقها تشابه السَّرديات وتهافت الرّوايات، فتصير إلى مللٍ من الطنين والرنين،.. خصوصًا لمثلي من غير المختصين في شيءٍ مُفيد على هذا الفضاء، ومن غير المعنيين بالحضور الافتراضي النشط.. أو لِنقُل من يجوز في حقِّهم نَعْت "طير التيدومه"، فلا أنا من مغاوير الصحافة المُهَيْمِنة بحقٍّ أو بباطل، ولا حتى من مليشيات توْسعتها الكُرديَّة المُمْتَهَنَة، فأُحرِّك يَدي ببعض الأخبار، كَثْرتها أو قِلّتها ،.. ولا أنا من الصَّف الموالي لصفِّها، صَف عِلْية المدوِّنين المُتجدِّد أبدًا من رماده، الصَّف المُمَجِّد بما يرفع الناس للأسفل ويمكث في الجيب،..  كما لستُ من أشاوس الكلمة الحرة، تلك القلة القابضة على جمر الحق بحنجرة ناشفة، التي تقول عاليا ما يهمس به غيرها خافتا.

لا أتجاوز غالبا الفُرجة السلبية على شيء يُمْسِي على مَا أصْبَحَ عليه، لا أُعلِّق كثيرا، لا أُقاطع، لا أعتَرض، لا أتضامن، حتى الرُّموز التَّعبيرية من الأيقونات صُرتُ أُسقِطُ كثيرًا استخدامها، اللهم إلاَّ الأيقونة الصَّفراء، الضَّاحكة البلهاء، أو القلب الأحمر المحب للجميع في الله،.. أمَّا الأيقونة المتعجبة فلا ألمْسها، أخشى أن  تبوح لي جهرًا بسرِّ حيرتها فتورِّطني معها،.. 
صدقًا، كلّ ما هو رمزيّ يَجلب لي قَشعريرة التَّوجس.. ولذا تموت مجمل أفكاري الثورية في قاعة الولادة قبل أن تَسْتَهِل الحياة، فلا تظفر بأثمن من حقِّ الدَّفن السريع..

مريحٌ سيداتي سادتي أنْ أبقى في حدود تفاهاتي، فلا أكسر قلمي عتابًا على جُنحة،.. فحتى لو جَنَحَ لأشياء أتفه مما ينبغي،  سلواه أنه يبقى في حدود دائرة الاحْتِشام، بمعنى آخر، لا يخدش الحياء السياسي.

ورغم ذلك، ما زلتُ أفكر بجدٍّ في احتراف تَخصُّصٍ يُعين مثلي على دفع رسوم الإقامة الافتراضية،.. فقد تاقت روحي ذات مَيَلانٍ مِخْملِيٍّ إلى التَّخصص في علوم "الجوِّ"، فرع الطبقة الباردة من سكان الإقليم الرابط بين ملتقى انواذيبو ومُفارقة اقنودرت، لكن سَبَقني عُمر كوناتي للتخصص في أحوال الطقس فتورَّعتُ عن مزاحته،.. 
ثُمَّ تاقَت روحي ذات جُنوحٍ نفْعيٍّ إلى اقتحامِ تخصُّص الحَسنات الافتراضية، قسم التَّحصيل الاستشفائي من الأغنياء والأغبياء، لكنِّي على يقين بأني لن أتجاوز امتحان البُكائيات الرَّوحانية، مَتْنُ استمطار الدَّمع الاصطناعي، فكل ضمائر الإشارة على الفيس تفضح المدامع، وتُشير: " ودعي البكاء فقد كرهتُ الأدمعا"،.. كما خفتُ أنْ تُسحب مني رخصة "العمل الصالح" بدعوى ظالمة، هيَ أنِّي: "تجاوزتُ السن القانوني للاحتيال في موريتانيا"..

أتَّهمُ هذا الفضاء بأنَّه كَيديٌّ ضدي، غير وُدِّيٍّ مَعي، فكلما ولَّيتُه الظَّهرَ عن مَللٍ،.. ينتعش بعدي بالمُحاكمات وينشط بالمُهلوِسات، ويَستَعِر بالاعتقالات والاستجوابات، ويَطرح تفضيلاتٍ  من المُلاسنات واللاَّيْفات واتهامات  تعقبها شكايات ستسحبها اعتذارات،.. باقة من شتَّى المُلْهيات المُسْكِرات، وكأنَّ الفيس اللَّئيم يُراودني بالمُغريَات ليَشُدَّني من أُذْني إليه.

أقاومُهُ،.. وأوعزُ إلى نفسي الأمَّارة بالرُّجوع، أنْ اصمدي قليلاً،.. ابتعدي شيئا مَا للوراء، أكثر بقليل نحو الخَلْف، حتى يَنشف الغسيل المُتَراكم على الحَبْل، فالرُّطوبة عالية، والروائح خانقة حول مَنْشَرِ الغَسيل الوَطني، كما أنّه من الانهزامات النفسية الكبرى للمرأة، أنْ تعود سريعًا بعد قرارها الرَّحيل..،  
أشجع نفسي بنفسي، واصلي الإختفاء يا دهماء وانْعمي بمضغ فَراغ الواقِع، فالفراغ طعام شعبيٌّ شهيّ، مُتاح وميسور التكلفة، سعره في متناول الكل، مَعفيٌّ من الضرائب ولا يحتاج ماءً نقيا لِيُبلَع.

سادتي،.. كثيرًا ما تختطفنا هذه التطبيقات من أنفسنا قسرًا، ورغم ذلك، لا نألف الغياب حتى ولو أنكرْنا شغف الرغبة في العودة!.
لهذه التطبيقات أوجه كثيرة سيئة، لكن الوجه السيئ للأشياء وللأشخاص يظل ضروريا، لأنَّه دليلنا الأصدق إلى عكسه،.. الذي هو الوجه الحسن.

تحياتي.

الدهماء