في مسرحية الحياة /الشيخ ولد بلعمش رحمه الله

في مسرحية الحياة  /الشيخ ولد بلعمش رحمه الله
قبل أكثر من عشرين عاما أقبلت بنهم على كتاب مصطفى محمود '' لغز الموت '' و صادف ذلك وجود كتب عائلية تتحدث عن الدار الآخرة و القبر و أهوال القيامة .. كان مشهد أول نعش أراه كافيا لأن يقشعر جلدي و تدمع عيناي ... كانت الفقيدة امرأة غادرت الحياة و هي تضع مولودها ... أحسست بمرارة الموقف و أنا أرى دموع الأطفال و تأوهات الأحبة و بدأت أسئلتي تترى .. لماذا الموت بل ربما لماذا الحياة؟! ... و لماذا الحزن بل لماذا نفرح ؟!..
يجيب القرآن الكريم عن تلك الأسئلة و يقرر أن الموت و الحياة إنما وجدا ليبلونا الله أينا أحسن عملا و بذلك لن نحتاج كمسلمين إلى مزيد من التطلع إلى حقيقة هذا القدر المحتوم .. لكن ما بال القشعريرة الأولى لا تفارقنا و ما بال الدموع تخنقنا و لماذا الرهبة ؟!
قبل ميلادنا أو ميلاد من يرحلون كان كل شيء على ما يرام .. السياسيون ينتف بعضهم بعضا و المغنون يصدحون بالروائع و الشعراء في كل واد يهيمون .. و بعد أن نغادر سيظل أيضا كل شيء على ما يرام ... و تستمر اللعبة ..
مات الأبطال و الأنذال ... مات الملوك و الرؤساء .. مات الأغنياء و الفقراء .. مات المغنون و الشعراء .. مات الجهال و العلماء ..
من المستحيل أن يكون ختام المشهد بهذه القتامة و لذلك نحن موعودون بحياة حقيقية هي الحَيَوان لو كانوا يعلمون ..
العدل الإلهي مطلق فما كان سيف القدر ليذيق البائسين علقم الأحزان دون عزاء منتظر و الله أكرم الأكرمين ..
سألتُ جدتي و أنا صغير إلى أين نذهب عندما نموت؟ فأجابت إلى الجنة إن شاء الله .. مرت فترة قصيرة لأسمعها تغالب أوجاع المرض الأخير و هي تتلو من الكتاب الكريم في صبر و تسليم لأجهش بالبكاء فأخذت بيدي و قالت يا بني إن الله تعالى يقول كل من عليها فان فإذا مت فلا تبك و ترحم علي و ثق بالله فأنا ذاهبة إلى الكريم ثم واصلت تلاوتها الشجية المتقنة .. كانت قراءتها القرآن آخر أعمالها و كذلك كانت أختها الكبري إذ حدثتني أن أختها خديجة توفيت و هي تقرأ من سورة الإسراء .. الإسراء وا حسرتاه ! و المسرى مدنس و الموت يخطف أبرياء غزة و لا أحد يوقف ذلك .. لست أدري أية طاقة تلبستني في صبيحة الغد و هي تُحمل إلى مثواها الأخير ..
أصدقاء كثر و أحباء ودعتُهم .. في تجكجة وقفتُ الصيف الماضي على قبر فتى بحثت عنه كثيرا لئلا يظن أنني بلا وفاء .. كان من أحسن الذين لاقيت أخلاقا في حياتي .. ما أجمله .. ما أبهى أناقته .. ما أروع بسمته .. ما أكرمه .. ما أشد ذكاءه .. ورحل بعد سويعتين من لقيانا .. كان ذلك قبل عقدين تقريبا ...
كلهم غادرونا و تركونا نتجرع الحسرة .. 
ما أكثر من ضمتهم لائحة الموتى المسجلة في القلب ..
حتى العيون الحور و القوام الفتان و الأمل المشرق لدي من قصص رحيل ذلك ما يدمي الفؤاد .. ما أقسى الأقدار !..
أحيانا أقتنع أن كل شيء بلا فائدة .. فسطور كتاب الدنيا تتبدل تماما بآخرين لكن السؤال كيف حدث ذلك و لم ننتبه ؟!.. 
قبل سفري الأول إلى سوريا رجعتُ بعد أن خطوت خطوتين إلى أبي و قلت له أريد السماح فابتسم و أجاب .. سنتان مرتا و قبل عودتي بثلاثة أيام ودع أبناءه و قرأ ما تيسر ثم قال افترقنا على قول لا إله إلا الله ... ركب السيارة و فجأة سلم روحه لبارئها قبل أن تنطلق .. لقد أجاب الله دعاءه المستمر اللهم هون علي سكرات الموت .. اللهم بارك لي في الموت و في ما بعد الموت .. 
حين وصلت المطار كان الخبر بانتظاري و لست أدري كيف خطر ببالي أنه رحل في ليلة وفاته و سيطر ذلك علي حتى وصولي ؟!..
إذا كانت هذه هي طبيعة الدنيا فما أهميتها ؟!.. ما أهمية المال و الشهرة و القوة و المراتب؟!.. 
المعري مظلوم ..المعري وحده من فهم الحقيقة ..
لكن لحظة من شجن الذكر و الغرق فيه تسافر بنفسك إلى عوالم يستوي فيها كل شيء و تتحطم الأصنام حسية و معنوية ..
تلك لحظة لا أبعاد لها .. و هي ملائمة لطبيعة المسار و مزاج الروح و أدمعك فيها نفي لكل ذلك الغبار الدنيوي ..
ما زلنا لم نفهم حق الفهم و لذلك يخاطبنا القرآن : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ..
تلك كلمات ألحَّت علي لأسطِّرها .. إنها تأمل و تذكر بصوت عال و لم تنحُ منحى الفلسفة العميقة أو تحليق الشعر .. أبعد ما ذكرت من فناء سيبقى الشعر و الفلسفة ؟!
الشيخ ولد بلعمش رحمه الله
2014