ديفيد غروسمان ومستقبل إسرائيل بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

 

ديفيد غروسمان، كاتب وأديب وإعلامي إسرائيلي معروف، كتب عدة روايات وأعمال فكرية. من أهم أعماله “الرياح الصفراء” وهو كتاب يسرد فيه معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال والقمع وقد جر عليه نقمة رئيس الحكومة الأسبق إسحاق شامير الذي اتهمه بخيانة إسرائيل.

ومع أنه وقف إجمالًا مع مشروع “الدولة اليهودية” وبرر أحيانًا بعض السياسيات الإسرائيلية العدوانية ضد الفلسطينيين والعرب، إلا أنه أظهر وعيًا ثاقبًا بالمأزق الحقيقي الذي وصلت إليه إسرائيل وإدراكًا حقيقيًا بضرورة المصالحة بين اليهود والفلسطينيين.

من آخر ما كتب غروسمان مقالة مهمة بعنوان “إسرائيل تسقط في الهاوية” نشرت في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية (1 آذار/ مارس 2024). المقالة مكتوبة من وحي الأحداث الجارية حاليًا في غزة وما سبقها من صدمة هجوم السابع من أكتوبر، وإن كان اعتبر أن المأزق الإسرائيلي الحالي له جذور بعيدة لا بد من إبرازها.

ومن مظاهر هذا المأزق التناقضات العميقة التي تنخر المجتمع الإسرائيلي، وقد ظهرت منذ أمد طويل. الأمر هنا لم يعد مجرد صراع أيديولوجي تقليدي بين اليمين واليسار، بل هو صراع كراهية وحقد ينعكس في المجال العمومي الذي أصبح يتسم “بالتسمم والعنف”.
بل إن غروسمان يرى أن إسرائيل غدت تعيش تحت شبح الانقسام بين شعبين متمايزين ومتصادمين، إلى حد أن الرأي العام الداخلي غدا قلقًا على مصير الكيان الوطني المهدد في أركانه واستمراريته.

لقد سعى المشروع الصهيوني أصلًا إلى إنشاء “وطن حاضن لليهود”، وما دام الموطن هو المكان الذي يأوي إليه الإنسان بطمأنينة، بما يتطلب ثقة الجيران وقبولهم والاعتراف بالحدود المشتركة معهم، فإن إسرائيل لم تتحول بعد قرابة ثمانين سنة إلى موطن حقيقي لليهود. إن مشروع الدولة لم يتحقق في الواقع وما يزال التطلع دون الهدف والغاية، ومن ثم يرى غروسمان أن إسرائيل أقرب اليوم للقلعة المحاصرة منها للوطن الحاضن. فهذه الدولة لا توفر لمواطنيها أمنًا ولا رفاهية، وعلاقاتها مع محيطها المجاور متوترة عدوانية. وما كشفت عنه أحداث السابع من أكتوبر هو أنها أبعد ما تكون عن الوطن بالمعنى الدقيق للعبارة، بل إنها لا تصلح أن تكون قلعة حقيقية.

وهكذا يخلص غروسمان إلى أن إسرائيل “أمة هشة” رغم كل مكاسبها ونجاحاتها العملية، فلا تزال مجرد ملجأ لشتات من الأفراد مهووسين بالأمن، قلقين من الضياع وإن كانت لهم دولة تبدو قوية ومندمجة في العالم.

سبق لغروسمان أن كتب مقالًا هامًا في صحيفة أتلانتيك الأمريكية بتاريخ 23 آذار/مارس 2023، أكد فيه على هذه الأفكار في سياق الحملة الواسعة ضد إجراءات حكومة نتنياهو تقليص سلطة القضاء لبناء دولة ديكتاتورية بالمعنى الحقيقي للعبارة حسب عبارة غروسمان. فعلى الرغم من أن إسرائيل تعتبر دومًا الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، إلا أن حكومة اليمين المتطرف التي يقودها نتنياهو ألغت حسب غروسمان آخر الضمانات المؤسسية لدولة القانون والفصل بين السلطات. ولقد تزامن هذا التحول مع نهاية الأحزاب القومية الكبرى وطغيان الأحزاب الدينية المتشددة والتشكيلات العنصرية في الوقت الذي تضاعف حجم السيطرة العسكرية على الحقل السياسي، بما يعني انقشاع وهم الديمقراطية الإسرائيلية.

كتب غروسمان في الاتجاه نفسه في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية: إن ما تعيشه إسرائيل من انقسام وتشتت في الوقت الراهن يتجاوز حروب وصراعات الماضي الذي شتت الوجود اليهودي إلى طوائف مقاتلة، إنه صراع مخيف “لا يمكن وصفه”، قد يفضي إلى تحطيم قواعد العيش المشترك في البلاد، نتيجة سياسات الخداع والوهم وغسل الدماغ المتراكمة التي تنذر بتقويض المعادلة السياسية الإسرائيلية.

لم يتردد غروسمان في وصف سياسات الاستيطان والقمع التي تمارسها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة بنظام الأبارتيد، وقد اعتبر أن مقولة الاحتلال أو الاستعمار لا تصلح للتعبير عن الوضع القائم في هذه المناطق.

في مقابلة مع الإذاعة العسكرية الإسرائيلية في كانون الأول/ديسمبر 2021 قال غروسمان بوضوح إن العبارة الوحيدة التي يمكن أن يوصف بها الوضع في الأراضي المحتلة سنة 1967 هي إقامة نظام الفصل العنصري، مطالبًا بتخليص إسرائيل من داء الاحتلال الذي سيؤدي إلى إهلاكها.

ومع أن العبارة نادرًا ما تستخدم في القاموس السياسي الإسرائيلي، إلا أنها هي الضبط الصحيح لسياسات الاحتلال الإسرائيلي، التي انتقلت من نظام الاستعمار التقليدي إلى إجراءات التمييز والفصل على أساس عنصري، يذكر فعلًا بالتجربة السابقة في جنوب إفريقيا (وذلك ما أكدت عليه تصريحات كبار المسؤولين في جوهانسبرج بعد تقديم جنوب إفريقيا دعواها ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية).

في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2023 نشرت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية مقالة مهمة لغروسمان من وحي الأحداث الأخيرة بعنوان “إسرائيل في كابوس، ماذا سنكون عندما نبعث من رمادنا؟”.

ولقد حمّل غروسمان مسؤولية ما حدث لرئيس الحكومة نتنياهو والتحالف الشريك له، متهمًا إياه بالخيانة، من خلال “التخلي الكامل عن الدولة لصالح أجندة حقيرة وجشعة، وسياسة وقحة وضيقة وحمقاء”.

إن الأحداث الأخيرة كما يراها غروسمان هي نتيجة تحكم “قادة فاسدين” قاموا بتقويض المؤسسات القضائية والقانونية وتدمير الجيش والنظام التربوي، إلى حد تعريض البلاد لخطر وجودي لمجرد الحيلولة دون خروج رئيس الوزراء من القصر إلى السجن.

لقد وقف نتنياهو ضد طموح القاعدة الشعبية العريضة لبناء دولة ليبرالية وديمقراطية تتبنى خيار السلم والمصالحة، فانتهى به الأمر إلى تقويض مشروع الدولة اليهودية الذي هو الفكرة المؤسسة للمشروع الصهيوني. لقد فشلت إسرائيل في أن تكون أثينا وإسبرطة معًا، وها هي اليوم كما يقول غروسمان أمام نفس الخطر الوجودي الذي قامت أصلًا من أجل تفاديه والحيلولة دونه.

لا شك في أن مواقف غروسمان شجاعة وصريحة، لكن كتاباته تظل في نهاية المطاف تحت سقف خطاب اليسار الإسرائيلي، الذي يريد المحافظة على جوهر المشروع الصهيوني ويرى أن المنعرج اليميني الراديكالي الذي يطبع سياسة إسرائيل الحالية خطر على هذا المشروع.